مقال تحليلي متميز للدكتور ابراهيم المراكشي ، يستحق القراءة

فايس بريس20 يوليو 2020آخر تحديث :
مقال تحليلي متميز للدكتور ابراهيم المراكشي ، يستحق القراءة

ابراهيم المراكشي

الحكومة تمهد الرأي العام لتقبل الأسوء، طلائع الأزمة بدأت ترخي بظلالها على الواقع المعاش، والوضعية عموما لا تبشر بالخير والبدائل التي تتوفر عليها الحكومة محدودة، وامكانية تأثيرها في إحداث تغيير إيجابي جد ضعيفة. بجد كان الله في عونها، الوضع في غاية التعقيد، لنحاول تقديمه بشكل مبسط.

منذ بداية الجائحة كانت الحكومة واعية بأن مواردها العادية لا تسمح لها بمواجهة ظروف طارئة مستجدة، لذلك جاءت المبادرة الملكية بجمع التبرعات، وكانت فكرة خلق صندوق لذلك ذكية تصون للدولة هيبتها. لذلك نقول أن المجهودات التي بذلتها الدولة في البداية لاحتواء الجائحة، أو المنح التي قدمتها للأسر المتضررة ليس تفضلا منها، فهي قبضت الثمن مقدما عن “خدماتها”.

أما ما تتوفر عليه الحكومة من موارد قبل بروز الجائحة فبالكاد تسمح لها بالصمود بأريحية ثلاثة أشهر فقط. كان على الحكومة أن تكون صريحة في هذا الباب مع ناخبيها، إلا أنها آثرت عكس ذلك حفاظا على استقرار المعاملات والمجتمع (لاحظنا كيف أثر الخوف على سلوك المواطن مع بداية الجائحة). إن استراتيجية الحكومة في مواجهة فيروس كوفيد-19 تم بنائها على أساس هذه الاحتمالية (من ذلك تقرر دعم من توقف عن العمل مدة ثلاثة أشهر، لا أكثر).

في حالة انقضاء هذه المدة دون اختفاء الفيروس يمكن للحكومة أن تصمد بمشقة وصعوبة لثلاثة أشهر أخرى إضافية لكن إن هي طرقت باب الاقتراض، وهو ما قامت به بالفعل، حينما اقترضت مبلغ نصف مليار دولار. هذا المبلغ الكبير لم يوظف في الاستثمار، أو في مشاريع عمومية تعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، كالطرق مثلا، وإنما خصص للإنفاق الحكومي، تماما كما هو الشأن مع العديد من القروض التي سبقته.

إن هذه الوضعية تفسر لنا سبب تغير مقاربة الدولة في تعاطيها مع ملف المصابين بالفيروس. فبينما كانت في الأشهر الثلاثة الأولى تستقبل كافة المصابين في مستشفياتها، أصبحت الآن تقتصر بعد انقضاء ستة أشهر على قبول الحالات الحرجة فقط، كما تم التقليص من كمية الدواء التي تخصص لاستشفاء المريض.

لاحظوا أن الحكومة لم تبادر إلى تعديل قانون المالية إلا بعد انقضاء فترة الستة إشهر، وكأنها كانت تراهن على احتفاء هذا الوباء خلال هذه المدة، أو أن يتم ايجاد حل له من طرف المختبرات.

لقد تم تعديل قانون المالية بنهج سياسة تقشفية كانت أولى ضحاياها القطاعات الاجتماعية، و لقد كانت الحكومة واعية منذ الوهلة الأولى بخطورة الوضع إن استمرت الجائحة بعد انقضاء الستة أشهر الأولى دون أن تتحرك عجلة الاقتصاد الوطني، في هذه الحالة ستكون الحكومة عارية دون أي حاجز وقائي يحميها من غضب السماء، وتقلباتها، لا مدخول ضريبي، تراجع في الصادرات وفي مداخيل السياحة، أهم مصدرين للعملة الصعبة إذا أضفنا تراجع المصدر الرئيسي المتمثل في تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وبالتالي لا تتوفر الحكومة على السيولة اللازمة لاستيراد ما يأكله المغاربة، انكماش النشاط البنكي والذي يعد مؤشر قوي ودال على مدى الأزمة وامتداداتها على بقية القطاعات.

توقف العديد من القطاعات الصناعية لأننا لا نتوفر على صناعة وطنية مستقلة، فجل الصناعات ترتبط دورتها باستيراد العديد من مكوناتها (قطع غيار، تكنولوجيا دقيقة،…)، تراجع القطاع الخدمات وضعف التجارة الداخلية، إلخ. فكل ملف من هذه الملفات الحارقة تدبيره يحتاج لفريق عمل متكامل ومتخصص وأشهر من الاشتغال ولموارد مالية ضخمة (الدعم الحكومي) حتى يتسنى استرجاع جزئي للوضع الطبيعي، كما أن الأمر برمته رهين بمعطيات الاقتصاد العالمي، وتقلباته. نشير في هذا الإطار إلى ضرورة أن يتفهم المواطن طبيعة هذا الدعم، وألا يشعر بالاحباط وهو يرى الدعم الأكبر يوجه للمقاولات، فيما الدولة قررت وقف الدعم الهزيل الذي كان يحصل عليه. ببساطة شديدة، لأن الدعم الذي تقدمه الدولة للشركات بالنسبة لها أخف ضررا من تزايد أعداد العاطلين عن العمل.

في الواقع الأزمة عميقة وخطيرة، و تدبيرها ليس هينا بالنسبة لدولة أضاعت فرصا عديدة للتنمية في محطات كثيرة، يكفي أن نشير إلى شق واحد صغير من ملف واحد من بين الملفات العديدة الموضوعة على طاولة الحكومة، وهو اقناع المستثمر الأجنبي بجدوى بقاءه وعدم مغادرته أرض الوطن، إذ لا بد من تقديم اغراءات له.

الحكومة في أضعف فترة في تاريخها، بصرف النظر عن من يقودها، وهو ما يجعلها عرضة للابتزاز من طرف اللوبي الصناعي، ولعل أبرز مثال نذكره في هذا السياق تدبيرها لملف مصنع رونو للسيارات.

لقد كانت الحكومة مضطرة لقبول طلب الشركة استئناف نشاطها، رغم وعيها بطبيعة المخاطر ومدى امتداداتها. في هذا الإطار الحكومة ظلت بين المطرقة والسندان، وأحد الحلين أمر من الآخر، فإن استمرت في فرض إجراءات الحجر الصحي سيكون ذلك على حساب الاقتصاد، مما يعني على سبيل المثال تقلص في مداخيلها الضريبية، وبالتالي قد تجد الدولة نفسها في مرحلة متقدمة عاجزة حتى عن أداء أجور موظفيها، وفي نفس الوقت ستكون الحكومة مضطرة لتقديم دعم مالي لشريحة اجتماعية واسعة تفاديا لانفجار الوضع اجتماعيا.

لاحظنا في الآونة الأخيرة تصاعد وتيرة الاحتجاجات بالمدن المغربية لفئات هشة تضررت من جراء منع مزاولتها لأنشطتها (الباعة المتجولين مثلا). لحد الآن الاحتجاجات سلمية، لكن لا شيء يضمن عدم انحرافها عن ذلك المسار، لنتذكر تذبذب الحكومة في تقديم الدعم للطبقات الاجتماعية المتضررة، وتأخرها في تقديم الشطر الثالث من الدعم، لأنها فكرت جديا في التراجع عن التزامها بتخصيص تلك الموارد لمجالات أخرى.

لا ننسى أن الحكومة تدير أزمة لم تكن تتوقعها، ولم تضعها يوما في أجندة حسباتها؛ وفي المقابل، إن هي سمحت بعودة الأنشطة الاقتصادية، ولو بشكل تدريجي، دون أن تكون مسيطرة على الوضعية الوبائية، فإن ذلك سيؤدي إلى صعوية التحكم في جغرافية انتشار الوباء، وإلى ارتفاع مؤكد في أعداد المصابين، ما يعقد الوضع أكثر، هو أن لدى الحكومة مواطن غير متعاون، وفي جزء كبير منه مضطر إلى عدم الالتزام بقواعد الحجر الصحي لفقره وهشاشته، هذا الأخير هو الحلقة الأضعف في هذه الأزمة والأكثر تضررا.

إن الرفع من اجراءات قواعد الحجر الصحي يعني المرور لمناعة القطيع، وضرورة أن تضع الدولة رهن إشارة مواطنيها لبنية تحتية طبية وأطر كافية لاستيعاب أعداد المصابين، وهو ما يخالفه الواقع المغربي جملة وتفصيلا، الحكومة الحالية تدفع ثمن أخطاء الحكومات السابقة، اليوم يدفع المغرب ثمنا باهظا لانتشار الفساد الإداري في أسلاك إدارته،المغرب يدفع ثمنا باهظا لغياب سياسة جبائية شفافة قائمة على العدالة المجالية والعدالة بين طبقات مجتمعه، المغرب يدفع ثمنا باهظا لارتفاع حجم دينه الخارجي والداخلي، اليوم يدفع المغرب ثمنا باهظا لفساد منظومته الصحية وهشاشتها.

المغرب يدفع ثمنا باهظا لبيعه جل مرافقه العمومية الاقتصادية، فافتقد على سبيل المثال سيادته على القرار الطاقي (لاسمير نموذجا)، المغرب يدفع اليوم ثمنا باهظا لأزمة أحزابه وفساد معظم مكوناتها، المغرب يدفع اليوم ثمنا باهظا لتفقير طبقته الوسطى، المغرب يدفع ثمنا باهظا لتفشي الاقصاء والتهميش لشرائحه الفقيرة، المغرب يدفع ثمنا باهظا لفساد جامعته وهشاشة الموارد المخصصة للبحث والتطوير، المغرب يدفع ثمنا باهظا لتشجيعه شيوع ثقافة الجهل بين صفوف أبناءه، المغرب يدفع ثمنا باهظا لعدم إصلاح منظومته القانونية إصلاحا حقيقيا، بما فيها وثيقته الدستورية…. أنا وأنت، ونحن جميعا ندفع ثمنا باهظا عن أخطاء الماضي.

يبدو لي أحيانا أن الحكومة في تدبيرها لهذه الأزمة كمثل الضرير الذي أراد أن يسقط حجلا ببندقيته، فأطلق رصاصة في الهواء وهو يصيح إن شاء الله لعلها قد تطيح بطائر من السماء، أقول مرة أخرى كان الله في عون هذه الحكومة، لأن البدائل المتاحة أمامها غير ناجعة، وفي طياتها تحمل عوامل فشلها، هذا هو الواقع بالشرح الواضح البسيط!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة