العالم السفلي في المغرب: همسات الجن وأسرار السحرة في أزقة النسيان

فايس بريس4 مايو 2025آخر تحديث :
العالم السفلي في المغرب: همسات الجن وأسرار السحرة في أزقة النسيان
العالم السفلي في المغرب: همسات الجن وأسرار السحرة في أزقة النسيان

في زوايا المغرب المعتمة، وبين ثنايا التقاليد العريقة وهمسات الأسواق القديمة، يتردد صدى عالم آخر، عالم غامض ومخيف، عالم الجن والشعوذة. هو ليس مجرد حكايات جدات تُروى للأطفال، بل هو واقع ملموس يؤمن به الكثيرون، ويخشاه الأكثرون، عالم تتداخل فيه الخرافة بالمعتقد، والإيمان بالخوف، حيث يسعى البعض للسيطرة على قوى خفية لتحقيق مآرب دنيوية، بينما يعيش آخرون في رعب دائم من تداخل هذا العالم مع حياتهم اليومية. هذا المقال يغوص في أعماق هذا العالم المثير والمرعب، كاشفًا عن بعض أسراره المظلمة.

من هم الجن؟ أسماء وأدوار في عالم الظل:

يؤمن الكثيرون بأن الجن مخلوقات خلقت من نار، تعيش موازية لعالمنا، لها قبائل وأديان ومقدرات مختلفة، منها المؤمن ومنها الكافر، منها الصالح ومنها الطالح. وفي عالم السحر والشعوذة، يُعتقد بوجود تسلسل هرمي وأنواع مختلفة من الجن، يُزعم أن السحرة يتواصلون معهم ويكلفونهم بمهام. تتردد أسماء كثيرة في هذا السياق، غالبًا ما تكون مرتبطة بالفولكلور والأساطير أكثر من كونها حقائق دينية مثبتة بشكل قاطع. من هذه الأسماء الشائعة في التراث الشعبي والممارسات السحرية المزعومة:

  •  ملوك الجن السبعة: يُعتقد في بعض الأوساط أن لكل يوم من أيام الأسبوع ملك من ملوك الجن يحكمه، ويتم استحضاره أو التعامل معه في ذلك اليوم لأغراض معينة (مثل الملك “ميمون” ليوم السبت، والملك “الأبيض” ليوم الجمعة، والملك “الأحمر” ليوم الثلاثاء، وهكذا).
  • الخدام (Khadam): هم جن يُعتقد أنهم في خدمة الساحر أو مرتبطون بطلاسم أو تعويذات معينة. لا يتم ذكر أسمائهم دائمًا، لكن يُشار إليهم كـ “خادم هذا الطلسم” أو “خادم هذا الحجاب”. دورهم هو تنفيذ الأمر المرتبط بالعمل السحري، سواء كان جلب الحبيب، التفريق، إلحاق الأذى، أو غير ذلك.
  • أنواع أخرى: تتردد أسماء لأنواع أخرى من الجن في الفولكلور المغربي مثل “عفريت” (القوي والمارد)، “غول” (الذي يسكن الأماكن المهجورة والمقابر)، “مارِد” (المتمرد والقوي)، و “شمهروش” (ملك الجن الشهير الذي يُعتقد أن له محكمة في جبال الأطلس).

دور كل جن: يُزعم أن لكل جن أو نوع من الجن اختصاصه وقدراته. فمنهم من يُستخدم لأعمال المحبة والجلب، ومنهم لأعمال الكراهية والتفريق، ومنهم من يُستخدم لكشف الدفائن والكنوز، وآخرون لأعمال الأذى والمرض. الساحر، حسب زعمه، يعرف “اختصاص” كل جن وكيفية استدعائه وتكليفه بالمهمة المطلوبة.

عالم السحر والشعوذة في المغرب:
لا يمكن إنكار أن للسحر والشعوذة جذورًا ضاربة في بعض جوانب الثقافة الشعبية المغربية، رغم تحريم الدين الإسلامي لهذه الممارسات بشكل قاطع واعتبارها من الكبائر. يلجأ البعض، للأسف، إلى السحرة والمشعوذين لأسباب متنوعة: حل مشاكل عاطفية، الانتقام، تحقيق النجاح المادي، أو حتى لإلحاق الضرر بالآخرين بدافع الحسد أو الكراهية. تنتشر هذه الممارسات في الخفاء، وتتخذ أشكالًا متعددة، من التمائم والأحجبة “الحروزة”، إلى طقوس أكثر تعقيدًا تتضمن مواد غريبة ومقززة أحيانًا، وقراءة تعاويذ غير مفهومة.

الطقوس والمستفيدون:
تختلف الطقوس المزعومة باختلاف الساحر والهدف المنشود ونوع الجن المراد استحضاره. قد تشمل هذه الطقوس:

  • التلاوات والتمتمات الغريبة (العزائم).
  • استخدام مواد مثل البخور الخاص، دم الحيوانات (خاصة الطيور سوداء اللون)، أجزاء من حيوانات ميتة، صور الأشخاص المستهدفين أو أثر منهم (شعر، ملابس).
  • الكتابة بمداد خاص (كالزعفران وماء الورد، أو مواد نجسة في حالات السحر الأسود).
  • اختيار أوقات معينة (ليالي محددة من الشهر القمري، ساعات معينة من الليل).
  • القيام بأفعال منافية للدين والأخلاق (كإهانة المقدسات في حالات السحر الأسود الشديدة، بهدف إرضاء الجن الكافر).

من المستفيد؟ المستفيد الظاهري هو الشخص الذي يلجأ للساحر لتحقيق غرضه. أما المستفيد الحقيقي والأكبر فهو الساحر نفسه الذي يجني المال من وراء هذه الأعمال المحرمة، بالإضافة إلى شعوره المزعوم بالقوة والسيطرة. وفي منظور ديني، يُعتبر الشيطان هو المستفيد الأكبر من إضلال الناس وإيقاعهم في الشرك.

كيف يسخر الساحر الجن؟ وسر “شمس المعارف الكبرى“:
يُعتقد أن عملية “تسخير” الجن، أي إخضاعه لخدمة الساحر، هي عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر الروحية والجسدية على الساحر نفسه. تزعم المعتقدات أن الساحر يقوم بأحد أمرين:

  • العهد والميثاق: يقدم الساحر قرابين أو يقوم بأفعال كفرية ترضي الجن المارد أو الشياطين، مقابل أن يخدموه وينفذوا أوامره. هذا يُعتبر أخطر أنواع التعامل.
  • العزائم والطلاسم: يستخدم الساحر تلاوات ورموزًا وأسماءً (يُزعم أنها أسماء للجن أو أسماء سريانية أو عبرية قديمة) يعتقد أنها تجبر الجن على الحضور والطاعة.

وهنا يأتي ذكر كتاب “شمس المعارف الكبرى” المنسوب لأحمد بن علي البوني (المتوفى حوالي 622 هـ / 1225 م). هذا الكتاب محاط بالغموض والجدل، ويُعتبر من أخطر كتب السحر في العالم العربي. يُمنع تداوله في العديد من الدول الإسلامية لما يحتويه.

  •  محتوياته: يُقال إن الكتاب يجمع بين علوم روحانية مزعومة، وفلك، وتنجيم، وحروف وأرقام (علم الأوفاق)، ووصفات سحرية، وطرق لتحضير الجن وتسخيرهم، ورسم طلاسم وجداول يعتقد أنها ذات قوة خارقة. يمزج الكتاب بين أدعية وآيات قرآنية يتم تحريف استخدامها ودمجها مع رموز وأسماء غريبة لخدمة أغراض سحرية، مما يجعله خطيرًا في نظر رجال الدين.
  • فائدته المزعومة للساحر: يُعتبر “شمس المعارف” بمثابة دليل أو موسوعة للساحر، يجد فيه (حسب الاعتقاد) الطرق والوصفات والطلاسم اللازمة لاستدعاء الجن والتعامل معهم لتحقيق مختلف الأغراض السحرية. مجرد اقتناء الكتاب أو قراءته يعتبر أمرًا خطيرًا في المعتقد الشعبي، وقد يجلب لحامله الأذى من الجن.

أضرحة ومواسم مرتبطة بالشعوذة (في المعتقد الشعبي):
بعض الأضرحة والمواسم الدينية في المغرب، والتي هي في الأصل أماكن للتبرك والزيارة الدينية، ارتبطت في أذهان البعض بممارسات الشعوذة والسحر، إما بسبب موقعها المنعزل، أو بسبب قصص وأساطير نسجت حول الولي المدفون أو المكان نفسه. من أشهر الأمثلة التي يتردد ذكرها في هذا السياق (مع التأكيد أن هذه ارتباطات شعبية قد لا تكون دقيقة أو تمثل الواقع الفعلي لهذه الأماكن الآن):

  • ضريح بويا عمر: كان يُعرف سابقًا كمكان يُحضر إليه المصابون بأمراض نفسية أو من يُعتقد أنهم “مسكونون”، وكانت تمارس فيه طقوس مثيرة للجدل قبل أن تتدخل السلطات وتغلقه وتنشئ مستشفى بجواره.
  • ضريح سيدي شمهروش: يقع في جبال الأطلس قرب توبقال، وهو مكان يصعب الوصول إليه. يُعتقد في الفولكلور أنه مقر “محكمة الجن” التي يرأسها الملك “شمهروش”. يقصده البعض لعلاج “المس” أو لحل مشاكل يُعتقد أن الجن سببها، وتُمارس هناك طقوس ذبح حيوانات وغيرها.
  •  بعض المواسم السنوية: في بعض المواسم (احتفالات الأولياء)، قد يستغل بعض المشعوذين التجمعات الكبيرة لممارسة أعمالهم في الخفاء أو لبيع التمائم والخدمات الروحانية المزعومة.

يظل عالم الجن والسحر في المغرب جزءًا من النسيج الثقافي الشعبي، يتأرجح بين الإيمان العميق والخوف الشديد. هو عالم سفلي تتداخل فيه الحقيقة بالوهم، وتستغله قلة لتحقيق مآرب دنيوية على حساب معاناة وجهل الكثيرين. وبينما يدين الدين الإسلامي هذه الممارسات بشدة، تبقى الأساطير والهمسات حول قوة الجن وقدرات السحرة تتردد في الأزقة المظلمة، شاهدة على صراع أبدي بين النور والظلام في النفس البشرية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة