فاس، ليست مجرد مدينة، بل هي متحف حي، وأرشيف متجسد لتاريخ المغرب العريق. هي المنبع الروحي والثقافي، ومهد العلم والدراسة، حيث تحتضن جامعة القرويين، أقدم جامعة في العالم. لطالما كانت فاس قطبًا اقتصاديًا وتجاريًا، ومحطة حيوية على طريق القوافل. أما المدينة القديمة، بـ “فاس البالي”، فهي تحفة معمارية عالمية، متاهة ساحرة من الأزقة الضيقة التي تفوح منها رائحة الماضي، والشوارع التي تروي حكايات ألف سنة.
تتجلى عظمة فاس في صناعتها التقليدية التي لا مثيل لها: من دباغة الجلود، إلى فنون النحاس، والتطريز، والخزف. هي أيادٍ عاملة ماهرة ورثت سر الصنعة جيلًا بعد جيل، صانعة بذلك هوية المدينة وريادتها في هذا المجال.
حين يصطدم التاريخ بمرارة الحاضر: السياسة ووجع التهميش
منذ تولي المجلس الجماعي الحالي، المنبثق من تحالف سياسي، لا يمكن إنكار أن بعض الإنجازات العمرانية والمشاريع الجمالية قد رأت النور. ولكن، هل تُقاس صحة المدينة بمبانيها الجديدة أم بنبض حياة مواطنيها؟
هنا بيت القصيد والصرخة الساخنة: فاس اليوم مدينة تعاني في صمت، تحت وطأة البطالة والتهميش الممنهج. شبابها، وهو عماد المستقبل، يُقذف في أتون اليأس، يفتقر إلى أبسط حقوقه: فرصة عمل شريفة.
المستثمرون يهربون! نعم، يهربون من فاس ليستقروا في مدن أخرى، وهذا سؤال يجب أن يُطرح بجدية على عتبة مجلس المدينة: لماذا يُعزف المستثمرون عن عاصمة العلم والروح؟ لا يمكن أن يكون السبب نقصًا في الكفاءات أو الإمكانيات، بل غالبًا ما يعود إلى بيروقراطية خانقة، أو غياب رؤية استثمارية واضحة، أو ضعف البنية التحتية المحفزة.
الصناع التقليديون.. “لهم الله”
الصناع التقليديون، وهم سفراء فاس الحقيقيون، يُعانون الأمرين. ينتجون أجود السلع اليدوية بأعلى درجات الإتقان، ولكن السلع لا تُباع! لا وجود لـ سياحة داخلية فعّالة ولا سياحة خارجية قادرة على استيعاب هذا الإنتاج الضخم. لقد خُذلوا في عقر دارهم.
في الوقت الذي تتبجح فيه جماعة فاس بـ “الإنجازات الكبرى” و “استقطاب الاستثمارات” في خطاباتها الرسمية، فإن الواقع على الأرض يُشير إلى إهمال وإقصاء منهجي. هذه الفجوة بين الخطاب والواقع هي التي تدفع بأعداد متزايدة من الشباب إلى تعاطي المخدرات والانخراط في طرق غير مشروعة، والسبب واحد لا ثاني له: اليأس والبطالة.
حي سيدي إبراهيم الصناعي، الذي كان رمزًا للإنتاجية والعمل النسوي، بات اليوم يعاني الركود.
لا يمكن الحديث عن معاناة فاس دون تسليط الضوء على المعاناة الأكبر والأكثر إلحاحًا: أزمة النقل الحضري الكارثية. مدينة بحجم فاس وكثافتها السكانية، لا يمكن أن تنهض أو تستقطب مستثمرًا أو تضمن كرامة مواطنيها دون شبكة نقل عام محترمة وكافية. التنقل داخل المدينة أصبح جحيمًا يوميًا يُضاف إلى قائمة المعاناة الطويلة.
فاس تستحق مكانة تليق بتاريخها وعظمتها. إنها دعوة صادقة لجماعة فاس، وللحكومة المركزية، ولجميع الفاعلين، للنظر إلى المدينة بعين المسؤولية وليس بعين الدعاية. أنقذوا شباب فاس، ادعموا صناعها، وفروا النقل لمواطنيها، وافتحوا الأبواب للمستثمرين بـ “النية الصادقة” وليس بـ “الوعود الزائفة”.
فاس ليست مجرد مدينة عتيقة، بل هي قلب ينبض ينتظر من ينفض عنه غبار الإهمال.




