المغرب يتصدى لملء الفراغ الأمني في دول الساحل الإفريقي بعد انسحابات إقليمية ودولية

هيئة التحريرمنذ 5 ساعاتآخر تحديث :
المغرب يتصدى لملء الفراغ الأمني في دول الساحل الإفريقي بعد انسحابات إقليمية ودولية

كشف تقرير حديث صادر عن “مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية” التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، عن تداعيات خطيرة لانسحاب السلطات الجديدة في باماكو من مبادرات التعاون الأمني الإقليمي، بما في ذلك خروجها من مجموعة “إيكواس” وتحالف دول الساحل، إلى جانب الانسحاب الفرنسي من المنطقة ومغادرة القوات الأممية لمالي.

وأشار التقرير إلى أن هذه التطورات أدت إلى إضعاف القدرات الأمنية المالية بشكل كبير، رغم تصاعد التهديدات الأمنية المرتبطة بالجماعات الجهادية، مما أسفر عن بيئة أكثر ملاءمة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين والجماعات المسلحة الإسلامية الأخرى للعمل والتوسع في المنطقة.

أكد التقرير الأمريكي أن توسع نشاط “كتيبة تحرير ماسينا” في جنوب مالي، وقدرة “تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين” على تعطيل إمدادات الوقود إلى باماكو وجميع أنحاء البلاد، أفرزا تهديدات متزايدة لجيران مالي الساحليين. وحذر من أن هذا الوضع سيؤدي حتماً إلى زيادة تدفقات النازحين من منطقة الساحل إلى كوت ديفوار وغينيا وموريتانيا والسنغال، مسجلاً أن التعرض المتزايد لهجمات عبر الحدود من قبل الجماعات المسلحة الإسلامية يعرض المجتمعات والحكومات المحلية في هذه الدول لخطر زعزعة الاستقرار.

أكد مهتمون بتطورات الأوضاع في منطقة الساحل أن تقليص مالي، إلى جانب كل من بوركينافاسو والنيجر، للتعاون الاستخباراتي مع الشركاء التقليديين، أدى إلى فراغ أمني واستراتيجي خطير في المنطقة استغلته الجماعات المسلحة لتوسيع دائرة تحركاتها وشبكاتها اللوجستية. ويرى مراقبون أن انسحاب هذه الدول من بعض الآليات الإقليمية وإضعاف قنوات التعاون الاستخباراتي مع الشركاء التقليديين، لم يخلق مجرد اضطراب مؤقت في خرائط التنسيق الأمني، بل أنتج فراغاً نظامياً خطيراً، أي انقطاعاً في المعلومات والتنسيق الذي كانت تحافظ به الهياكل الإقليمية على حد أدنى من استجابة مشتركة للأزمة.

هذا الانحلال المؤسسي يظهر بوضوح في القرار المتسلسل لبلدان مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر بالانفصال عن آليات إقليمية كبرى، وما يرافق ذلك من تراجع في مشاركة بعض القنوات المتخصصة، وهو ما يترك أسئلة حقيقية عن قدرة الجوار الإقليمي والدولي على تعبئة آليات بديلة بسرعة وفاعلية. النتيجة الميدانية سريعة وواضحة، حيث إن الجماعات المسلحة لا تواجه الآن مجرد سلطة مركزية أضعف، بل تُقابلها فضاءات جغرافية وسياسية أكثر تشتتاً وسهولة للنفاذ، مما يتيح لهذه المجموعات استغلال الفراغ الاستخباراتي لتوسيع شبكاتها واختبار تكتيكات جديدة.

في ظل هذا الواقع المعقد، يبرز المغرب، بحكم تجربته الاستخباراتية المتقدمة في مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف، كفاعل مؤثر وحيوي قادر على ملء هذا الفراغ الخطير عبر شراكات ثنائية ومتعددة الأطراف. وتشير التحليلات إلى أن المملكة تمتلك مزايا عديدة تؤهلها للعب هذا الدور المحوري، منها تجربتها المؤسسية الطويلة في مواجهة التطرف، وبناها الأمنية والتنظيمية التي عملت بكفاءة على مستوى الاستخبارات بالتعاون مع شركاء أوروبيين وإفريقيين على حد سواء.

سياسياً، تربط المغرب علاقات جيدة مع الحكومات الانتقالية في دول ساحلية عدة، مما يسمح له بدخول قنوات ثنائية فعالة أحياناً تقفز على الاحتكاك الحاد مع هياكل إقليمية أكبر. وقد وقع المغرب مع هذه الدول اتفاقيات في مجال التعاون العسكري والتدريب، كما أنها جزء من المبادرة الأطلسية التي أطلقتها الرباط لفائدة الدول الحبيسة في القارة. هذه المزايا توفر للمغرب نافذة استراتيجية للتموضع كوسيط تقني وعامل استقرار إقليمي حقيقي في منطقة حساسة ومضطربة.

يمكن للمغرب أن يملأ هذا الفراغ الاستخباراتي والأمني بذكاء وفعالية عبر عدة محاور استراتيجية. أولاً، من خلال شراكات استخباراتية ثنائية تركز على تبادل المعلومات العملية الحساسة، رصد إشارات الاتصال، تتبع تحركات التمويل، ورصد مواقع التدريب، مع ضمان آليات موثوقة للسرية والربط القانوني. ثانياً، عبر مبادرات متعددة الأطراف ضيقة التركيز، كإنشاء مراكز إقليمية لتبادل المعلومات تستهدف تهديدات مشتركة محددة، وبرامج بناء القدرات المحلية طويلة الأمد، إضافة إلى برامج إعادة الإدماج التي تكسر دورة التجنيد في الجماعات المتطرفة.

تشمل الاستراتيجية المغربية أيضاً التدريب المشترك ودعم القدرات التقنية والاستخباراتية لمواجهة الخطر الإرهابي المحتدم في المنطقة. وتكتسب هذه المبادرات أهمية خاصة في ضوء المعلومات التي تشير إلى أن الحركات الإرهابية في الشمال المالي، حيث تنشط حركة ماسينا وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، قد توجهت في الآونة الأخيرة إلى تشكيل جيش مصغر وحصلت على أسلحة متقدمة كالطائرات المسيرة ومدافع سام، مستفيدة من الفجوة الأمنية والاستخباراتية الكبيرة في المنطقة.

انخراط المغرب في ملء الفراغ الأمني بمنطقة الساحل مدفوع بمجموعة من العوامل الاستراتيجية الحيوية. يأتي في مقدمتها التزام المملكة العميق باستقرار الفضاء الإفريقي ومواجهة التنظيمات المتطرفة التي باتت تهدد دول الجوار المغربي المباشر، وخاصة موريتانيا التي تربطها حدود مع مالي. إضافة إلى ذلك، فإن المبادرات والمشاريع المغربية الطموحة في القارة، كالمبادرة الأطلسية ومشروع أنبوب الغاز الأطلسي، تحتم على المملكة الانخراط بقوة والتعاون مع هذه الدول عسكرياً واستخباراتياً لمواجهة الأخطار الأمنية التي تهدد الاستقرار الإقليمي، ومعه نجاح هذه المشاريع الاستراتيجية الكبرى.

تشكل دول مثلث باماكو-نيامي-بوركينا فاسو جزءاً محورياً من الرؤية الاستراتيجية المغربية ومصالحها في إفريقيا، خاصة وأن هذه الدول قد اتجهت في المقابل لتعزيز شراكاتها الأمنية مع بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين، بهدف تأسيس إطار ثلاثي مشترك لمواجهة التهديدات التي تستهدف استقرارها وحماية مصالحها. وفي هذا السياق، يمثل المغرب شريكاً استراتيجياً موثوقاً يتمتع بخبرة عملية متقدمة ومصداقية إقليمية ودولية.

يشكل الفراغ الإقليمي في منطقة الساحل خطراً حقيقياً، لكنه أيضاً اختبار جدي لقدرات الفاعلين الإقليميين الجادين والمسؤولين. المغرب، بما يملكه من قدرات تقنية متقدمة وتجربة مؤسسية عريقة، يمكنه أن يثبت أن التعاون المدفوع بالمصلحة المشتركة والقدرات الاستخباراتية المتطورة لا يحتاج بالضرورة إلى تكرار بنى معطوبة، بل إلى بناء شبكات عملية، شفافة نسبياً، ومحكومة بقواعد واضحة تحمي المدنيين وتستعيد المنافع الأمنية للدول المعنية.

الفشل في استغلال هذه الفرصة الاستراتيجية بنهج مسؤول وفعال سيترك المجال مفتوحاً أمام تنافس أوسع، إقليمي ودولي، يصعب معه لاحقاً رسم خرائط أمنية مستقرة في منطقة الساحل. لذلك، فإن الدور المغربي في هذا المجال لا يمثل فقط استجابة لحاجة إقليمية ملحة، بل يشكل أيضاً رؤية استراتيجية بعيدة المدى لبناء فضاء إفريقي أكثر أمناً واستقراراً، يخدم مصالح جميع الأطراف المعنية ويحمي شعوب المنطقة من ويلات الإرهاب والتطرف العنيف.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة