في قلب مدينة فاس، العاصمة العلمية للمملكة المغربية، تقع حديقة “جنان السبيل”، واحة خضراء تزخر بالتاريخ والجمال، وتُعدّ جسرًا يربط بين عراقة فاس الإدريسية وحداثة فاس المرينية. هذه الحديقة التي أسرت قلوب السكان والزوار على مر العصور، ليست مجرد متنزه، بل هي متحف حي يحكي قصصًا من الأمس، ويهدي للحاضر مساحة من السكينة والجمال.
تاريخ يورق ويُزهر
لم تكن “جنان السبيل” مجرد فكرة عابرة، بل كانت رؤية ملكية. بدأ الاهتمام بها في عهد السلطان مولاي عبد الله (1710-1790)، الذي أمر بتطهير أرضها. لكن مُنشئها الفعلي هو السلطان الحسن الأول (1873-1894)، الذي حوّلها إلى تحفة فنية تُحاكي حدائق الأندلس المفقودة. وقد أمر السلطان ببناء سلسلة من الأسوار لتربط قسمي المدينة القديمة، وجعل لهذه الحديقة ممرًا سريًا تحت الأرض يصلها بالقصر الملكي، مما سمح لحاشيته، خاصة الأميرات، بالوصول إلى القصور الصيفية الجديدة التي بُنيت على مراحل.
يُعدّ هذا الممر رمزًا للتواصل بين عوالم المدينة المختلفة، وهو ما يتجسد اليوم في أبواب الحديقة الثمانية التي تتيح للزوار التنقل بسهولة بين المدينة القديمة والمدينة الجديدة، وهو ما يُفسّر تسميتها بـ “السبيل” أي الطريق أو الممر.
ملاذ الروح وفسحة العقل
على مدى قرون، مثّلت “جنان السبيل” متنفسًا رئيسيًا لسكان فاس. فكان الناس يأتون إليها، خاصة يوم الجمعة، ليجلسوا تحت ظلال أشجارها الوارفة، ويستمتعوا بخرير مياه نوافيرها وجداولها، ويتناولون الوجبات الخفيفة والمسليات. لقد أصبحت الحديقة جزءًا من الذاكرة الشعبية، بل إنها دخلت في الأمثال اليومية، مثل قولهم: “بحال جنان السبيل، شوف بعينك وهدى بيدك”، كناية عن احترام المكان والنظام.
لقد كانت الحديقة في الماضي تزخر بالنشاطات التي تملأها بالحياة. فكانت هناك مقاهٍ على ضفاف الأودية الصغيرة، يتردد عليها مختلف فئات المجتمع، من حرفيين وتجار وعلماء وفنانين وحتى رموز الحركة الوطنية. كانت أصوات أساطير الطرب العربي مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب تنبعث من “الطباسيل” (الأسطوانات)، لتختلط بهدير النواعير الخشبية التي كانت ترفع الماء. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل كانت البحيرة الكبيرة في قلب الحديقة تتيح للزوار فرصة الاستمتاع بجولات بالقوارب الصغيرة.
جنة من النباتات النادرة
صُممت “جنان السبيل” لتكون نسخة مصغرة من الجنة، فهي تضم أنواعًا نباتية نادرة وغريبة عن البيئة المغربية والمتوسطية، مثل أشجار الخيزران الصيني والصنوبر الأمريكي اللاتيني، ونباتات قادمة من الهند وإفريقيا، إلى جانب الأشجار المألوفة مثل البرتقال والليمون والزيتون. هذا التنوع البيولوجي الفريد يجعل منها متحفًا طبيعيًا يضم حوالي ألف نوع من المغروسات.
وقد شكلت الحديقة مصدر إلهام للعديد من الشعراء والفنانين، الذين تغنوا بجمالها في قصائدهم وأعمالهم. لقد خلدها شعراء كبار أمثال بلعيد السوسي وحمادي التونسي ومحمد المدغري في قصائدهم التي ما زالت تُتداول حتى اليوم، لتؤكد على مكانتها العميقة في وجدان أهل فاس.
نهضة وتجديد
كغيرها من المعالم التاريخية، عرفت “جنان السبيل” فترات من الإهمال، مما أدى إلى إغلاق أبوابها لبعض الوقت. لكن بفضل مبادرة كريمة من مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، برئاسة صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء، خضعت الحديقة لعملية ترميم شاملة أعادت إليها رونقها وجمالها.
أُعيد فتح الحديقة عام 2010، وهي اليوم أكثر حيوية من أي وقت مضى. أصبحت تستقبل الطلاب الذين يبحثون عن الهدوء للمراجعة، وتستضيف الأنشطة التربوية للأطفال، كما لا تزال وجهة مفضلة للسياح الأجانب والزوار من مختلف المدن.
“جنان السبيل” ليست مجرد حديقة، بل هي قلب فاس النابض، شاهدة على تاريخها، وملاذ لجمالها. هي حلم أندلسي تحقق على أرض المغرب، ورمز لتواصل الأجيال وتشبثها بإرثها الثقافي والحضاري.